ما زال المستثمرون في حيرة من أمرهم بشأن أهداف الرئيس الأميركي دونالد ترامب تجاه العملة الأميركية، مع إشادة بعض حلفائه بفوائد ضعف الدولار على المصنعين، بينما أصر وزير الخزانة سكوت بيسنت، خلال الشهر الجاري، على أن ترامب لم يغير سياسة "الدولار القوي".
يأتي ذلك وسط ارتفاع قيمة العديد من العملات العالمية مقابل الدولار، لكن ذلك لا يحدث بشكل مقصود. تعكس تحركات أسعار الصرف الأجنبي التوقعات بأن الأجندة الاقتصادية الجذرية للإدارة الأميركية الجديدة ستُضعف النمو.
مع استمرار عزم ترامب على تحويل بلاده إلى قوة تصديرية صناعية بغض النظر عن المعاناة الاقتصادية قصيرة الأجل، تساءل المستثمرون عما إذا كانت الإدارة ستلجأ يوماً ما إلى اقتراح جذري للعملة يُعرف باسم "اتفاق مار إيه لاغو" - على الرغم من أن احتمالات تطبيقه ضئيلة، بحسب صحيفة فايننشال تايمز البريطانية.
اقرأ أيضاً: صمود الدولار مقابل ارتفاع اليورو بعد اتفاق مالي بألمانيا واحتمال عدم إغلاق الحكومة الأميركية
لماذا تراجع الدولار بعد أعلى مستويات في سنوات؟
قبل فوزه بفترته الرئاسية الثانية، قال دونالد ترامب في العام 2024 إنه يعتقد أن قوة الدولار مقابل الين الياباني والرنمينبي الصيني تمثل "عبئاً هائلاً" على الصناعة الأميركية وعائقًا أمام التحول الأميركي إلى "اقتصاد إنتاجي".
وكان نائب الرئيس الحالي، جيه دي فانس، أشار في وقت سابق إلى رغم أن قيمة الدولار كانت "مفيدة جداً للقوة الشرائية الأميركية"، فإن ذلك جاء على حساب قطاع التصنيع في الولايات المتحدة.
ووفقاً للمعايير التاريخية، كان الدولار قوياً في الفترة الأخيرة من العام 2024. ففي الأشهر التي تلت الانتخابات، وصل إلى أعلى مستوى له مقابل سلة من العملات المتداولة، بما في ذلك اليورو والجنيه الإسترليني، منذ العام 2022، وعلى أساس الوزن التجاري مقابل مجموعة أوسع من العملات، كان الدولار في أعلى مستوى له منذ عقود.
وكان ارتفاع قيمة الدولار مدفوعاً جزئياً بتوقعات زيادة الرسوم الجمركية، والتي كان من المتوقع أن تُفاقم التضخم وتُصعب على الاحتياطي الفدرالي خفض معدلات الفائدة.
لكن في الأشهر الأخيرة، أدت المخاوف بشأن احتمال حدوث ركود في الولايات المتحدة إلى عكس بعض تلك الرهانات وإضعاف العملة، حيث أخذ المستثمرون في الحسبان المزيد من تخفيضات الفائدة.
اقرأ أيضاً: تراجع هيمنة الدولار الأميركي.. الرابحون الكبار في سوق العملات الأجنبية خلال 2025
المحافظة على سياسة "الدولار القوي"؟
دفع الحديث داخل دائرة ترامب عن الدولار المبالغ في قيمته المستثمرين إلى التساؤل عما إذا كانت الإدارة يمكن أن تتراجع عن موقف "الدولار القوي"، الذي كان قائماً منذ إدارة الرئيس الأسبق بيل كلينتون.
وأصر وزير الخزانة في مقابلة مع قناة CNBC، الأسبوع الماضي، على أن ترامب "ملتزم بالسياسات التي ستؤدي إلى دولار قوي".
ومع ذلك، انتقد الوزير أيضاً الدول التي سعت إلى هندسة إضعاف عملاتها مقابل الدولار الأميركي. وعندما سُئل يوم الخميس عن الانخفاضات الأخيرة في قيمة الدولار، وصف بيسنت هذه الخطوات بأنها تعديل "طبيعي".
اقرأ أيضاً: وزير الخزانة الأميركية لـCNBC: الاقتصاد قد يتباطأ مع التحول بعيداً عن الإنفاق العام
الحديث عن اتفاق "مار إيه لاغو" المقترح
ترجع فكرة اتفاق "مار إيه لاغو" (مكان المقر التابع لترامب) إلى رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين لترامب، ستيفن ميران، والذي طرحها في نوفمبر/ تشرين الثاني. واستلهم اسم الفكرة من "اتفاق بلازا" الموقع في العام 1985 في أحد فنادق نيويورك، امتلكه ترامب لاحقاً، وكان يهدف إلى خفض قيمة الدولار القوي بشكل مفرط.
جمع "اتفاق بلازا" بين الولايات المتحدة، وفرنسا، وألمانيا، واليابان، والمملكة المتحدة للحد من قوة العملة الأميركية. وبعد 40 عاماً، يرى ميران أن هناك حاجة لتكرار هذه الخطوة لتصحيح المبالغة في تقييم الدولار، والتي تعيق تحقيق التوازن في التجارة الدولية.
وفي الوقت نفسه، لا تزال واشنطن تريد أن يحتفظ الدولار بدوره كعملة احتياطية دولية - وهو امتياز يُمكّن الحكومة من دفع أسعار فائدة منخفضة نسبياً على ديونها.
وكجزء من الاتفاق المحتمل، سيتم حث الحكومات الأجنبية إلى الموافقة على تمديد مدة احتياطياتها من سندات الخزانة الأميركية، مقابل البقاء تحت ما يُشير إليه ميران بـ "المظلة الدفاعية" الأميركية وتجنب الرسوم الجمركية العقابية.
وخضع هذا الطرح لتدقيق متزايد وسط مناخ من عدم اليقين، تفاقم مع تبني ترامب سياسات تجارية أكثر عدوانية مما توقعه العديد من المستثمرين.
وقال أستاذ الاقتصاد ومستشار في البيت الأبيض في عهد ريغان، ستيف هانكي: "الفكرة تتردد بقوة في الأوساط الاقتصادية، ولا شك في ذلك".
صعوبة تحديد مواقف المستثمرين
واجه المستثمرون صعوبة في تحديد مواقعهم لمواجهة تأثير اتفاق "مار إيه لاغو" - في حالة تحوله إلى حقيقة على أرض الواقع - ويعود ذلك جزئياً إلى عدم اليقين بشأن السياسات المتبعة من الإدارة الأميركية.
وقال ستيفن إنجلاندر، من بنك Standard Chartered، في مذكرة نُشرت الشهر الماضي: "تكمن مشكلة الإدارة الجديدة في أنها تسعى في الوقت نفسه إلى إضعاف الدولار، وخفض العجز التجاري، وتدفقات رأس المال، وأن يظل الدولار العملة الرئيسية في الاحتياطيات والمدفوعات الدولية".
كما سلطت كبيرة مسؤولي الاستثمار في الدخل الثابت بشركة Franklin Templeton، سونال ديساي، الضوء على "التناقض الداخلي" بشأن الرغبة في إضعاف الدولار وفي نفس الوقت فرض رسوم جمركية من المرجح أن يكون لها تأثير معاكس.
الخطر المتزايد لتباطؤ الاقتصاد الأميريكي - واحتمال أن يؤدي ذلك إلى تخفيضات أكثر جرأة في معدلات الفائدة من الاحتياطي الفدرالي - فتح الباب أمام ترامب للحصول على دولار أضعف مع استمرار حربه التجارية.
يضع المتداولون الآن في الحسبان تخفيضين بمقدار ربع نقطة من الاحتياطي الفدرالي بحلول نهاية العام، مع احتمال مرتفع جداً لتخفيض ثالث. يُقارن ذلك بتخفيض أو اثنين خلال 2025 تم توقعهما قبل عودة ترامب إلى منصب الرئاسة.
ترك ضعف الدولار بعض الناس يتساءلون عما إذا كان هناك شيء أعمق يحدث. تساءل جورج سارافيلوس من Deutsche Bank الأسبوع الماضي عما إذا كنا نشهد "الخسارة المحتملة لوضع الدولار كملاذ آمن".
هل يمكن عقد صفقة بشأن الدولار؟
يشكك الاقتصاديون في عقد صفقة بشأن الدولار. وأشار مدير معهد Peterson للاقتصاد الدولي، آدم بوسن، إلى أن "اتفاق بلازا" تم إبرامه مع مجموعة صغيرة من الدول، وأهمها اليابان وألمانيا، اللتين كانتا تعتمدان على الولايات المتحدة في أمنهما.
وقال بوسن: "الآن [في العام 2025] ستتعامل مع الصين والشرق الأوسط وستة اقتصادات أو أكثر من شرق آسيا، معظمها ليس حليفاً عسكرياً مباشراً للولايات المتحدة". "إنها عقبات كبيرة للغاية".
ويرى مايكل سترين، من معهد American Enterprise، بأن فكرة "الاتفاق" "غير معقولة في ظاهرها".
وقال سترين: "لن تُعيد أوروبا تنظيم ميزان مدخراتها واستثماراتها أو تتخذ أي خطوات اقتصادية كلية كبيرة أخرى من أجل إعادة تقييم عملتها لمجرد أن إدارة ترامب تريد ذلك".
وأضاف: "أنا واثق تماماً من القول إن هذا ليس أمراً حقيقياً وإنه لن يحدث".
وقال ستيف هانكي إنه رغم احتمالية أن يغير تحول أسعار الصرف من مساهمة مختلف الدول في الميزان التجاري، فإن هذا التحول "لن يؤثر على العجز الكلي".
اقرأ أيضاً: كيف يوازن الاحتياطي الاستراتيجي الأميركي بين هيمنة العملات المشفرة والدولار ولماذا يقلق بعض الخبراء؟
"التلاعب بسوق السندات"
كما سيدخل التلاعب بسوق سندات الخزانة الحكومة الأميركية في منطقة خطرة، بحسب فايننشال تايمز. تُشكّل السوق، التي تُقارب قيمتها 30 تريليون دولار، حجر الأساس للتمويل العالمي، وتُعزز دور الدولار كعملة احتياطية عالمية بحكم الواقع، وتُتيح للولايات المتحدة مرونةً في ماليتها العامة.
أحد المقترحات التي يناقشها ميران - وهو أن تحول الدول حيازاتها الحالية من ديون الحكومة الأميركية إلى سندات لأجل قرن - يُمكن أن تُعتبره وكالات التصنيف الائتماني تخلفاً فنياً عن السداد.
سيكون مثل هذا الحدث دراماتيكياً لدرجة أن التنبؤ بتأثيره يكاد يكون مستحيلاً. وقال مدير صندوق الدخل الثابت بشركة Wellington Management، كونور فيتزجيرالد: "إنه أمر غير مألوف لدرجة أنه لا توجد سابقة له".
تابعونا على منصات التواصل الاجتماعي